صرَّح وزير العدل اللبناني خلال وجولته التفقدية للمحاكم أن التأخر في إصدار الأحكام وجه من وجوه الظلم، وصورة من صور الإستنكاف عن إحقاق الحق. وقد تزامنت تصريحاته مع خطوة جرئية للقضاء الفرنسي أدان فيها الدولة للتأخر في إصدار الأحكام فكان من المفيد تصليت الضوء على هذا الحكم لما قد يكون له من أثر على سير الدعاوى لدى المحاكم اللبنانية. خاصةً والقضاء اللبناني لم يكن بعيداً عن هذا التوجه عندما أشارت محكمة التمييز المدنية اللبنانية في قرارها رقم139 الصادر بتاريخ 2/2/1966 في دعوى بلدية بيروت/بطرس ورفاقه إلى أنه :" لا يجوز أن يتحمل المدعي نتائج تأخير الفصل بدعواه".
بتاريخ28/6/2002 صدر عن الجمعية العامة لمجلس الدولة الفرنسي حكماً فريداً من نوعه تجدونه منشوراً في A.J.D.A. juillet-Aout2002 p599 ، وذلك في الدعوى المقامة من وزير العدل على السيد Magiera طالباً إبطال قرار محكمة الاستئناف الإدارية الذي حكم للسيد Magiera بالتعويض عن الضرر الناشئ من انتظاره أكثر من سبع سنوات ونصف حتى فصلت المحكمة الإدارية في الاستدعاء الذي تقدم به في شهر أيار من العام1990.
واستند مجلس الدولة في حكمه إلى المادة السادسة فقرتها الأولى من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي تنص على " أن لكل شخص الحق في أن تسمع دعواه هيئة محكمة بصورة عادلة وعلانية وخلال مهلة معقولة، … ". والمادة13 من هذه الاتفاقية التي تنص على أن:" لكل شخص تنتهك حقوقه وحرياته التي تكفلها هذه الاتفاقية، الحق في مراجعة مجدية أمام محكمة وطنية، حتى ولو كان هذا الانتهاك قد حصل عبر هيئة أثناء ممارستها وظائفها الرسمية".
واستناداً لهاتين المادتين فإن للمتقاضين الحق في أن يفصل القضاء بمراجعتهم خلال مهلة معقولة. وحتى لو لم ينتج عن تجاهل هذا الموجب أي أثر على صحة هذا الحكم القضائي الذي صدر بصورة متأخرة بعد اختتام إجراءات المحاكمة، فإن للمتقاضين أيضاً الحق في طلب احترام المحكمة لهذا الموجب، وإذا نجم عن مخالفة حق إصدار الحكم في مهلة معقولة أضرار، فإنه يجب أن يحصل هؤلاء المتقاضين على التعويض عن الأضرار التي سببها السير الخاطئ للمرفق العام القضائي.
ورأى المجلس أن تقدير الفترة المعقولة لإصدار الحكم يكون خاضعاً لجملة معطيات تجعل هذه الفترة مختلفة بين مراجعة قضائية وأخرى، حيث تؤخذ في احتساب الفترة المعقولة سواء استعمال الفرقاء لوسائل الطعن، وتصرفاتهم خلال سير المحاكمة، أو مدى اشتمال المراجعة على نقاط قانونية تحتاج إلى دراسة خاصة، كما يجب مراعاة ظروف كل دعوى ومدى احتوائها على تعقيدات ويؤخذ بعين الاعتبار في تقدير المهلة المعقولة درجة صعوبة النزاع وما إذا كان بالإمكان الفصل فيه بالسرعة اللازمة.
واستناداً لهذه المعايير تكون محكمة الاستئناف قد أصابت باعتبار أن الفترة الفاصلة بين تقديم الدعوى وإصدار الحكم في هذه المراجعة، والتي بلغت سبع سنوات وستة أشهر من أجل حل نزاع لا يوجد فيه أي صعوبات خاصة، هي فترة طويلة جداً. وهذا ما استوجب إصلاح مجموع الأضرار المادية والمعنوية، المباشرة والأكيدة، والتي إصلاحها لا يتحقق بإصدار الحكم الذي يفصل في النزاع الأساسي. بل يتوجب أيضاً إصلاح الضرر الناجم عن مجرد تأخر القضاء في الاعتراف بحق المستدعي . وقدَّرت محكمـة استئناف باريس، أن السيد Magiera قد أصيب نتيجة لطول إجراءات المحاكمة بقلق واضطراب في ممارسة حياته الطبيعية، والذي على أساسه حكمت له بمبلغ 30.000 فرنك كتعويض عن هذا الضرر.
أقر مجلس الدولة التعويض الذي فرضته المحكمة على وزارة العدل، معتبراً أنه خلافاً لما قاله وزير العدل، لم ترتكب المحكمة أي خطأ في القانون. واستناداً لذلك فإن طلب وزير العدل بأبطال حكم محكمة الاستئناف يكون مردوداً .
كان على مجلس الدولة في هذه القضية إقناع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أنه يوجد في القانون الفرنسي مراجعة فاعلة بالمعنى الذي أوجبته المادة13 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، وذلك في الحالة التي يتجاهل القاضي الإداري حق المتقاضي بأن تفصل المحكمة بدعواه خلال مهلة معقولة. كما أراد أن يثبت لمحكمة ستراسبورغ أنه يتقيد بالمبدأ الذي استخلصته هذه المحكمة من خلال عطف الفقرة الأولى من المادة السادسة على المادة 13 من الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وقد بدأت هذه المحكمة منذ فترة قصيرة بتطبيق مبدأ وجوب توفر المراجعة الفاعلة لكل متقاضٍ تضرر من تأخر محكمة وطنية في إصدار الحكم. وأول حكم صدر عن هذه المحكمة تطبيقاً لهذا المبدأ كان في دعوى Kudla ضد الدولة البولونية بتاريخ 26/10/2000 حيث أصدرت حكماً أقرت فيه أن المتقاضي يجب أن يملك القدرة على الاستفادة من مراجعة فاعلة أمام محكمة وطنية تسمح له بالشكوى من التأخر في إصدار الحكم.
أما الدعوى الثانية التي فصلت فيها محكمة ستراسبورغ فهي دعوى Lutz ضد الدولة الفرنسية بتاريخ 26/3/2002 حيث أدانت المحكمة الدولة الفرنسية لمخالفتها أحكام الفقرة الأولى من المادة السادسة والمادة 13 من الاتفاقية الأوروبية. وقد رفضت محكمة ستراسبورغ لحقوق الإنسان تذرع الدولة الفرنسية بأن محاكمها تسير على خطى اجتهاد Darmont الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 29/12/1978 لأنه كان يشترط ارتكاب المحكمة خطأ جسيم أثناء قيامها بوظيفتها من أجل ترتب مسؤولياتها. واشتراط الخطأ الجسيم يجعل من هذه المراجعة من الناحية العملية غير مجدية. وقد لاحظت المحكمة أيضاً أن محكمة الاستئناف الإدارية في باريس عندما أدانت الدولة بالمسؤولية عن التأخر في إصدار الحكم في دعوى Magiera فإنها بحثت أيضاً عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته المحكمة الإدارية. وهو خلاف ما تنادي به محكمة ستراسبورغ التي لا تشترط خطاءً جسيماً وإنما مجرد التأخر عن إصدار الحكم ضمن المهلة المعقولة حتى بدون خطأ.
وقد حاولت الهيئة العامة لمحكمة التمييز الفرنسية مجاراة المحكمة الأوروبية وذلك في قضية Cts Bolle-Laroche c/ Agent judiciaire du trésor بتاريخ 23/2/2001 عندما أخذت بالتفسير الواسع للخطأ الجسيم بالمعنى الذي يقصده نص المادة 781 من قانون التنظيم القضائي الفرنسي التي تشترط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الدولة عن أعمال القضاة. فأقرت المحكمة أنها تجد من الصعوبة إجراء تمييز بين الخطأ الجسيم والخطأ البسيط. وأن المسؤولية تترتب عند توفر الخطأ دون الاعتداد بجسامته أو بساطته.
وعندما نظرت الجمعية العامة لمجلس الدولة في قضية Magiera وضعت جميع هذه الاعتبارات أمامها، وأرادت تكريس المبدأ الذي وضعته المحكمة الأوروبية، وذلك من أجل تجنيب الدولة الفرنسية من المقاضاة أمام هذه المحكمة، لذلك فإن مجلس الدولة لم يكتفِ بتثبيت الحكم الذي توصلت إليه محكمة استئناف باريس، بل عمد إلى تغيير الأساس القانوني الذي استندت إليه، أي استبعد فكرة الخطأ الجسيم، واكتفى بشرط تأخر القاضي عن إصدار الحكم في المهلة المعقولة ليربط بهذا التأخر مسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية.وقد أضاف هذا الحكم حجراً جديداً في بناء المسؤولية بدون خطأ الذي ما فتئ القضاء في تطويرها وتوسيع مجالات تطبيقها.
أما في لبنان فقد تلقف المتضرورن من طول الانتظار على أبواب المحاكم اللبنانية، حكم Magiera بلهفة وأسرعوا في ربط النزاع مع وزارة العدل، مطالبون بالتعويض عن تأخر القضاء في البت بالملفات العالقة.
كما كان التأخير في بت الدعاوى مصدر شكوى رجال القانون لانعكاساتها السلبية على أوضاعهم، وعلى المواطنين الذين يجدون صعوبة في استيفاء حقوقهم، وفي هذا المجال علَّق الدكتور فوزت فرحات على الحكم الصادر بتاريخ 19/2/1998عن مجلس القضايا في الدعوى المقامة من محمد ناجي ضد مصلحة استثمار مرفأ طرابلس، وسينشر هذا التعليق في مجلة الحياة النيابية، وقد انتقد الدكتور فرحات التأخر غير المبرر لمجلس القضايا في إصدار الحكم، حيث تقدم المستدعي بتاريخ 10/4/1970 طالباً إبطال قرار رئيس مجلس إدارة مصلحة استثمار مرفأ طرابلس الذي فرض عليه عقوبة حسم خمسة أيام من راتبه، فانتظر المستدعي أكثر 27 سنة وتسعة أشهر، لصدور الحكم الذي رد الدعوى لعدم الاختصاص، أي أن هيئة القضايا المؤلفة من ستة من كبار القضاة إضافة إلى رئيس مجلس شورى الدولة قد اجتمعوا لا من أجل إبطال العقوبة وإنصاف المستدعي، بل طلبوا إليه تحمل مشقة رفع الدعوى مجدداً أمام القضاء العدلي، وهو ما لن يفعله بالتأكيد.
وقد تنبه المشترع إلى مسألة التأخر في إصدار الحكم، فنصت المادة الرابعة من قانون أصول المحـاكمات المدنيـة على أنه لا يجوز للقاضي تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق: … 2- أن يتأخر بغير سبب عن إصدار الحكم. كما نصت المادة السابعة من قانون تنظيم القضاء الشرعي على أنه لا يجوز للقاضي أن يمتنع عن الحكم بحجة غموض القانون أو نقصانه وإلا عد متخلفاً عن إحقاق الحق ويمكن أن يعد أيضاً تخلفاً عن إحقاق الحق التأخر غير المشروع عن إصدار الحكم.
وإذا كان هذا النص قد ألزم القاضي بإصدار الحكم دون تأخير (ما لم يكن هناك سبب) تحت طائلة اعتباره مستنكفاً عن إحقاق الحق. إلا أن المشترع، كما يقول الأستاذ سليمان تقي الدين في مقالته صورة القضاء في لبنان، قد عطل هذا النص بإعطاء القاضي سلطة واسعة لتوجيه المحاكمة وإجراءاتها، والمهل غير المعقولة للتقاضي، أو دعوة الخصوم إلى إثبات وقائع ثابتة في الملف، أو اللجوء إلى الاستجواب في حالات لا تبرر مثل هذا الإجراء، أو فتح المحاكمة بعد اختتامها من أجل التملص من إصدار الأحكام بعد انتقال القاضي من منطقة إلى أخرى في التشكيلات القضائية، أو اتخاذ بعض القضاة سلطتهم التقديرية بصورة غير مبررة لإطالة أمد المحاكمة أو التأخير في موعد إصدار الأحكام .كما أن تأخير الدعوى يؤدي في كثير من الحالات إلى تعطيل حقوق دستورية كفلها الدستور صراحة، كما هي الحال مثلاً في موضوع الملكية حيث ينص الدستور في المادة15 من الدستور على أن الملكية في حمى القانون، ويفقد حق الملكية فاعليته وقيمته في المنازعات القضائية التي تمتد على مدى عشرات السنين.
وهذا ما دفع وزير العدل إلى القول بأن تأخير بت الدعاوى يؤدي إلى ما يشبه عدم إحقاق الحق. ومع ذلك لا يوجد أمام المتضرر من التأخير دون سبب في إصدار الحكم إلا وسيلة استثنائية واحدة للمراجعة هي مداعاة الدولة بسبب مسؤولياتها عن أعمال القضاة، والمنصوص عنها في المادة741 من قانون أصول المحاكمات المدنية. إلا أن الضوابط الإجرائية التي نص عليها القانون لقبول الدعوى (عدم قابلية الحكم المشكو منه لطرق المراجعة العادية – تقديم الدعوى حلال مهلة شهرين – توجيه إنذارين متتالين للقاضي المستنكف عن إصدار الحكم ) كما أن الضوابط التي أوجدتها الهيئة العامة لمحكمة التمييز لجهة ثبوت قصد القاضي الامتناع عن إصدار الحكم واشتراط الخطأ الجسيم جعلت هذه المراجعة عديمة الجدوى.
ولا يسعنا في نهاية هذا العرض إلا التمسك بما توصل إليه الاجتهاد الفرنسي والأوروبي بإقرار موجب البت في الدعاوى والنزاعات خلال فترة معقولة، ومنح المتضررين من تأخير الفصل في منازعاتهم التعويض المناسب عما لحق بهم من أضرار مادية ومعنوية، خاصةً وأن لنا في بلاد المشرق معنى متميز لسرعة البت في النزاعات، وهو معنى العدل، وذلك تصديقاً لقول الله تعالى:" لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب" سورة غافر آية 17 أي أن تأخير الحساب وجه من وجوه الظلم، وأن سرعة الحساب وجه من وجوه العدل. ولا نخفي الأثر الطيب الذي يحدثه البت السريع في الدعاوى على المجمتع من اشاعة الطمأنينة بين أفراده، إلى تعزيز الثقة بالقضاء وتجنيب المواطنين اللجوء إلى هيئات التحكيم أو مجالس العدل الخاص.
مركز بيروت للابحاث والمعلومات | نشرت بتاريخ: 02.01.2010